
خالد القاضي
سيناء .. وثقافة السلام
علمتنا المعركة القانونية والدبلوماسية التي انتصرت فيها مصر باسترداد سيناء منذ 32 عاما أن ثقافة السلام تغيِّرنا من الداخل، وصولا إلى حالة يتحلل فيها العنف البنيوي، ليعبر الإنسان عن طبيعته الجوهرية التي تضعه على طريق التطور الطبيعي صوب غاية الوجود و التعايش السلمي بين كل الشعوب و الأجناس لرابطة الإنسانية التي ينضوون تحت لوائها.. والله سبحانه وتعالى دعا إلى دار السلام ؛ فثقافة السلام متأصلة في الثقافة العربية ـ الإسلامية, كما أن الدين المسيحي أساساً دين محبة وتسامح وسلام.. وفي الأصل فإن دعوات الرسل والأنبياء كلهم , كانت للعدالة والمحبة والسلام والوئام ووحدانية الخالق ومحاربة الجهالة والفقر والاضطهاد والظلم والعسف والإرهاب.. وهذا هو الرئيس الراحل أنور السادات يبادر إلى عقد معاهدة سلام مع إسرائيل مناديا ضحايا الحروب بأن يملئوا الأرض والفضاء بتراتيل السلام .. يملئوا الصدور والقلوب بآمال السلام .. يجعلوا الأنشودة حقيقة تعيش وتثمر.. ويجعلوا الأمل دستور عمل ونضال.
حسنا فعل العديد من الكتاب و المفكرين في تحليل ودراسة جوانب قضية سيناء بإصدارات قيمة حولها .. كما أقيمت بعض الندوات و المؤتمرات و حلقات النقاش وغيرها من الفعاليات المفيدة احتفاءً بها .. وبرغم كل ذلك فإن سيناء لم تنل بعد حقها من الاهتمام الذي يليق بها و يناسب جلال محوريتها في التاريخ و الحاضر المصري.
لقد أثبتت تجربة سيناء أنه لا يمكن فصل بناء السلام عن ثقافة السلام، لأن السلام ليس بنية نهائية.. ثقافة السلام تجعل من السلام بنية ديناميكية، تمنع نشوء النزاعات أو تجعل حلها ممكنا بالطرق السلمية، دون اللجوء إلى العنف و الحرب, وبالتالي فإن الحالة التي ترمي ثقافة السلام للوصول إليها تستغني عن الحاجة إلى قوات لحفظ السلام!! لأن حفظ السلام يعني إيقاف الاقتتال، ووقف إزهاق الأرواح وتدمير الممتلكات والمقدرات والثروات , أما صنع السلام ، فهو البحث الخلاق عن حلول واقعية وناجعة ودائمة للنزاعات, وتساهم ثقافة السلام في بناء السلام الثابت والدائم، لأنها تغير من أسس العنف الاجتماعية والإيديولوجية والدينية والسياسية , و من ثم فإن حل النزاعات بالوسائل السلمية يعني الوصول إلى تغيير جذري وحقيقي في موقف الأطراف المتنازعة يكفل ديمومة و استقرار مراكزها القانونية المستندة إلى ثقافة السلام .
فتحقيق السلام لا يكون إلا من خلال تفعيل الحوار.. الحوار هنا لا يعني مجرد بحث آني لقضايا خلافية عالقة، وإنما يعني تحاورا بأعرض مداه وأعمقه, أي تفاعلا فكريا يلامس الخبرة الإنسانية لدى سائر الأمم في مختلف رؤاها وكافة خبراتها عبر العصور.. حوار الحضارات بهذا المعنى يستدعي تفاعلا شاملا بين أهل الحضارات المتحاورة؛ على مستوى منه بين كافة البشر من شتى مناحي الحياة، و على مستوى آخر بين أهل الصدارة من قادة ومفكرين وعلماء وأدباء وأرباب مختلف المهارات والفنون.
وبهذا المفهوم تتواصل أصداء سيناء فى محاولة لتفعيل دور المثقفين والمؤسسات الثقافية بمصر لنشر ثقافة السلام والتفاهم والاحترام المتبادل داخلياً فى مواجهة كل دعاوى العنف والتطرف ، وخارجياً لإيجاد القواسم المشتركة مع الغرب على أساس بث الفهم والتعريف بثقافتنا ومعرفة ثقافتهم .
فالسلام هو فكر وثقافة وعمل وممارسة وأسلوب حياة ومعيشة للفرد وللأسرة والمؤسسات والمجتمعات وأن أساس تحقيق السلام هو الإنسان الذي هو في الوقت ذاته أساس تحقيق التقدم والرخاء ..له أن يعيش في ظل مجتمع أكثر حبا وأمانا وأمنا واستقرارا .. مجتمع أكثر تسامحا وتراحما وتعاونا .. مجتمع ينبذ الحروب والعنف والتطرف .. مجتمع يقبل الاختلاف ويسمح بالتنافس والحوار .. مجتمع يقوم على الاحترام والعمل والتقدير للآخرين واحترام الاختلاف في الرأي والمصالح والعقيدة والفكر.
ومن جماع ما تقدم , أقترح إنشاء " مركز سيناء لدراسات السلام " كمركز متخصص في قواعد السلام وآلياته متخذاً من نموذج سيناء مبادئ حاكمة لمنهجه ونظام عمله , يضم النخبة من الأكاديميين و الممارسين في كافة التخصصات للعمل من أجل نشر ثقافة السلام في المجتمع المصري ثم التبشير بثقافة عالمية للسلام تنطلق من أرض الكنانة إلى كافة أنحاء العالم .. ليكون ناطقاً باسم مصر السلام, ورسولاً لدعاة السلام, وسفيرًا لجنود السلام.. مستشرفاً الأمل في غدٍ زاهرٍ مشرق بإذن الله.