
احمد المرشد
ما بين عصى الدمع وثورة الشك
قالوا كثيرا عن الحب، فضائله، تأثيراته الإيجابية على الإنسان، على الإنسانية، ولنقل على البشرية كلها، ولكنى أزيد على كل ما قيل بأن الحب عشق، احتواء، اكتفاء، فهكذا يكون الحب بين المحبين، والحب اتصال وكلام وشعر ونثر، وصدق من قال إنه من القلب للقلب رسول، فلذة الدنيا فى وصل الحبيب وسماع صوته ولو من بعيد والاستنئاس به لو قريب، أما إذا تجاهل الحبيب حبيبه، فما يعلى هذا من مقام الحب، فما بالنا إذا ما بالغ الحبيب فى الهجر والمغالاة فى فراقه وتجاهله لحبه! هل يريد أن يثبت وجوده فى قلب الحبيب؟ أو التيقن من قدره وغلاوته ومحبته؟ اعتقد لا، لأن الهجر والفراق فى بعض الأحيان لا يثبت مقدار الحب. وربما تكون لى فلسفتى الخاصة فى الحب، فهو لذة الدنيا ووصل السلام، أما إذا تمادينا فى الصدود، فهذا يعنى وأد للغرام، فالهجر والفراق يكسر القلوب. والخوف، كل الخوف، أن يرحل الحب بسبب الفراق والهجر. والخوف، كل الخوف، ألا يعود الحب بوهجه وحرارته كما كان فى زمنه الأول. والخوف، كل الخوف، أن ننكسر من الفراق وتنسى العين شكل الحبيب، فمن رحل لا يعود، وإن عاد لن يكون كما كان فى سيرته الأولى.
أقول الى أى مهاجر، إنسان أو إنسانة، فى أى مكان أو أى موقع، ياليت المشاعر ترى بالعين، لتدركوا كم هو الجرح، ليعرفوا قدرهم
ان الإحساس بالوحدة بعد الهجر والفراق يدمى القلوب ويحول الأيام الى جحيم، والسعادة الى نيران ملتهبة لا تنطفئ، والقلب الدامى ترهقه الأحزان ويصير كالمجهول لا يعرف أحد أين سيكون غده، أو حتى كيف سيكون نهاره ويومه، فهو ضائع، جائع، حزين، كسير، بسبب الوحدة، لغياب شريكه فى الحياة، لغياب حبه، لغياب عشقه، لغياب حياته، فحبه هو الحياة.
فأى إنسان يخشى الغياب، والمخيف، أن يتعود هذا الغياب! فما أقسى الفراق، وكم يتمنى الإنسان أن يرى مهاجره ولو صدفة، ولكن ربما لن تصل الأمور الى ما كانت عليه، فإن عاد الحبيب بعد هجره، فهو لن يكون كما كان.. فثمة من يرحل ولا يعود، وخوف المحب، أى محب أن ينطبق هذا على غائبه ومفارقه.. وثمة من يقول إن المحبة لن تموت حتى لو طال الغياب، فالحب موطن، والحب فكر، والحب قلب، والحب حياة، والحب ليس عابر سبيل، وإنما هو الوطن، والمحب للوطن أسير.
وأقول لاى إنسان مهما كان موقعه أو مكانه او بلده، لا يستطيع العيش بلا حب، فالحب هو كل مؤهلات المرء للعيش فى هذه الدنيا، وبالحب يهب الإنسان كل ما لديه من عواطف جياشة، غرام، عشق، فيهب حياته لحبه مثل الكريم الذى يمنح بسخاء.. وسعادته فى حبه بأن يوهب محبته لمهاجره، لعله يتعلم منه ليدرك معنى العطاء، وتتحرك مشاعره ولا يبخل. فالإنسان بحبه يستطيع أن يلهب القلوب نارا، وباحتوائه واهتمامه بحبه يستطيع أن يحرك القلوب من مكامنها لتكون عواطفها جياشة، فحب أى إنسان يحرك القلوب حتى لو كان قلبه جماد، وحب أى إنسان هو الذى يجعل كل ما يراه جميلا، وكرم أى إنسان وخيره يهبه لم يستحق، وتسامحه يكون لمن يرق قلبه ويلين حتى لو بعد حين.. أما المترفع والمتعالى، فالقلوب له لن تلين، فالإنسان الكريم لا يباع أو يشترى إلا بالتواضع وحسن القبول وحلو المعشر وليس بالكبر والغرور، فهذه صفات تزيد الفرقة بين القلوب.. ولعل الإنسان المحب يعيش هنا حياة أبوفراس الحمدانى عندما تحدث عن محبوبته التى ألهبت قلبه وهى عنه بعيدة متجلدة بالصبر، وهو بالصبر أصبح مجنونا، ولا يستطيع العيش بدونها، فكتب "أراك عصى الدمع.. شيمتـك الصبـر|أما للهوى نهـى عليـك ولا أمـر| بلى أنـا مشتـاق وعنـدى لوعـة|ولكـن مثلـى لا يـذاع لـه ســر".
نعم أنا مشتاق ومهاجرى لا يرق قلبه، ليواصل الحمدانى وصف حبه ونار قلبه التى تلهب جوانحه ولا يزال حبه متسلحا بالصبر "إذا الليل أضوانى بسطت يد الهـوى|وأذللت دمعا مـن خلائقـه الكبـر|تكاد تضىء النـار بيـن جوانحـى|إذا هـى أذكتهـا الصبابـة والفكـر".. فما أصعب ليل العاشق بعيدا عن عشقه، ليل طويل مظلم بلا فجر، بلا بقعة ضوء، بلا أشعة شمس تلتهب.
نعم أنا مشتاق ومهاجرى لا يزال يصبر على هجره بلا معنى أو داع، ويعرف مدى ظمئى ويتمادى فى البعاد، يعرف مكان الماء ويحجبه فى جفاه، وهنا يعود أبوفراس الحمدانى لوهجه وتساؤلاته "تسائلنى مـن أنـت وهـى عليمـة|وهل بفتى مثلى علـى حالـه نكـر|معللتى بالوصـل والمـوت دونـه|إذا مت ظمآنـا فـلا نـزل القطـر.
نعم أنا مشتاق ومهاجرى يلوعنى ويعلم ما بقلبى من نار تشتعل من الهجر وهو يتمادى فى البعاد، فماذا نقول له سوى ما قاله أبوفراس الحمدانى "فقالت لقد أزرى بـك الدهـر بعدنـا|فقلت معاذ الله بـل أنـت لا الدهـر|وقلبت أمـرى لا أرى لـى راحـة|إذا البين اضنانى الح بى الهج".. نعم أضنانى البعاد والح بى الهجر.
نعم أنا مشتاق ولى لوعة، والمهاجر يضنينى بعاده والح بى هجره، وهنا الحديث لكل من يحب، ولهذا فكل هؤلاء يلجأون الى وصف شاعرنا الكبير عبد الله الفيصل فى رائعته "ثورة الشك"، فهل العيب فى أما فى مهاجرى، فأصبحت أشك فى نفسى كما يقول الفيصل "أكاد أشكُّ فى نفسى لأنى أكادُ أشكُّ فيكَ وأنتَ منّى"..فكيف أعيش بدونك وأنت منى، وكيف أشك فيك وأنت منى، فأنا صنعتك من هواى وجنويى، ولماذا تخون العهد ولم تحفظ هواى ولم تصنى، يواصل الفيصل " يقولُ الناسُ إنّك خنتَ عهدى ولم تحفظْ هوايَ ولم تصنّي"..هذا رغم أن بحت لك بأن كل هواى ومناى فى هذه الدنيا، ولم أصدق فيك كذبا قيل عنك فى بعدك، ولم لا؟ فأنت هواى وأنت منى وكيف أعيش بدونك، حتى طال بى البعاد " وأنتَ مُناى أجمعها مشتْ بى إليكَ خُطى الشّبابِ المُطمئنِّ يُكذِّبُ فيك كلَّ الناسِ قلبى وتسمعُ فيك كلَّ الناسِ أُذنى".
نعم أنا مشتاق ولى لوعة، والمهاجر يضنينى بعاده والح بى هجره، والشك يقتلنى وظلاله استعبدتنى وأرهقتنى حياتى، فهذا ما وصفه الفيصل بكلماته ومشاعره الفياضة " وكمْ طافتْ عليَّ ظلالُ شكٍّ أقضّت مضجعى واستعبدتنى كأنّى طافَ بى رَكبُ الليالى يُحدِّثُ عنك فى الدنيا وعنّى".
نعم أنا مشتاق ولى لوعة، ومهاجرى يضنينى بعاده والح بى هجره، وهو على الهجر قائم ومصمم غير مبال بما أضنى به محبه من كثرة بعده، وغير مبالى بما أرهقه به وساوس، ولعل ما قاله الفيصل هنا لخير معبر "على أنى أُغالطُ فيك سمعى وتُبصر فيك غيرَ الشكِّ عينى.. وما أنا بالمُصدِّق فيك قولاً.. ولكنّى شقيتُ بحُسنِ ظنّى وبى ممّا يُساوِرُنى كثيرٌ من الشَّجنِ المؤرّقِ.. لا تدعنى تُعذَّبُ فى لهيبِ الشكِّ روحى وتَشقى بالظنونِ وبالتمنّى أجبنى.. إذ ا سألتُك هل صحيحٌ حديثُ الناسِ خُنتَ ألمْ تَخنـّي؟.. أكادُ أشكُّ فى نفسى لأنّى أكادُ أشكُّ فيك وأنتَ منى.. يقولُ الناسُ إنك خنت عهدى ولم تحفظْ هواى ولم تَصُنّى وأنت مُنايَ أَجمعُها مَشتْ بى إليك خُطى الشّبابِ المُطمئن".
لا أقول الى أى مهاجر، إن الحب نعمة، إحساس، مشاعر فياضة، والأهم من كل هذا فإن الحب احتواء، واهتمام، فبقدر احتواء حبك والاهتمام به سيكون مقدار حبه وعواطفه وعطاؤه، فمن احتوى ازداد حبا، ومن أبدى اهتماما تلوع اشتياقا.. فغياب الاحتواء والاهتمام يجهضان مشاعر الحب مهما كانت فياضة.
الى كل البشر، الى كل من يحب، فلتواصلوا احتواء من تحبون، واهتموا بهم وبمشاعرهم وبقلوبهم، حتى لا تشتعل النار بين جوانح محبينكم ولا يضنيهم البعاد والهجر..وحتى لا يشمت فى المحبين أعداؤهم أو نصدق فى المحب قولا يثير الشكوك.