السوق العربية المشتركة | فلنتذكر اليتيم فى هذا الشهر العظيم

السوق العربية المشتركة

الأحد 8 يونيو 2025 - 11:11
رئيس مجلس الإدارة
أمانى الموجى
نائب رئيس مجلس الإدارة
م. حاتم الجوهري
  فلنتذكر اليتيم فى هذا الشهر العظيم

فلنتذكر اليتيم فى هذا الشهر العظيم


اعترف فى البداية أن الموضوع الذى أكتبه اليوم ربما تأخر بعض الوقت لظروف كثيرة، منها تزاحم الأفكار وسرعة الأحداث، ما جعلنى أفكر مليا فى تأجيله إلى شهر رمضان المبارك، فهو أحق بالذكر فيه، بصفته شهر الرحمة، فما سأكتبه يتعلق حقا بالرحمة، الرحمة باليتيم ومن فقد والدته ووالده، واعترف أيضا بأن الذى دفعنى للكتابة عن اليتيم هو حكاية الطفل المصرى أسامة المعروف باسم “طفل سيناء” الذى طلب منه فى ورقة أسئلة العربى بأن يكتب موضوعا عن الأم، فكتب عبارة بليغة وحكيمة، فكتب “أمى ماتت ومات معها كل شىء”..لتتحول هذه الجملة والطفل إلى حديث مواقع التواصل الاجتماعى فى مصر والوطن العربى، ولعلى هنا أبرز بعض الحقائق عن هذه الرواية وما يرتبط بها من حال اليتيم، ولا أخص بلدا معينا وإنما عموما.

أسامة طفل لم يتجاوز عامه العاشر وفى الصف الخامس الابتدائى فى مدينة الشيخ زويد بالعريش التى تتعرض يوميا لحوادث إرهابية ضد المدنيين وجنود القوات المسلحة والشرطة المصرية فى حرب شرسة لكسر شوكة المصريين التى لن تنكسر بإذن الله، حرب أتت على الأخضر واليابس، وكانت جملة أسامة فى موضوع “التعبير” التى أشرنا إليها سببا فى شهرته ليس على مستوى مدينته فقط، وإنما تعدت مصر إلى كل الأقطار، وهذا بسبب أمه التى يفتقدها ويحن إليها، أمه التى اعتاد أن تمسك يديه من الصف الثانى وتوصله حتى باب مدرسته لمسافة 7 كيلومترات ذهابا ومثلهم إيابا، ليخطف الموت هذه الأم بعد رحلة مرض مؤلمة تسبب فى أن تتلون حياة الطفل أسامة بالسواد. ولم لا؟ فهى الأم والأب معا، فالأب قعيد ولا يقدر على العمل، ما جعل أسامة يرفض المشاركة فى حفل تكريمه بمحافظة شمال سيناء التابع لها، ويترك مكافأة المحافظ حتى لا يضيع عليه أجرة عمل يوم فى مزارع الزيتون، فالطفل ورغم حداثة سنه قد أصبح عائل الأسرة، ويتحمل شظف العيش ويذهب للحقول يوميا من أجل أجرة زهيدة يوميا، ويتحمل كل مخاطر الإرهاب وربما يصطاده إرهابيا برصاصة، لكنه لا يأبه بكل هذه المخاطر ويواصل عمله فى المزارع من أجل توفير لقمة عيش ولو بسيطة لأشقائه الأربع ووالده القعيد.

أسامة ابن العاشرة تصوره التقارير الصحفية المصرية على أنه أصبح كمن بلغ الخمسين من عمره، يجلس وقت راحته تحت أشجار الزيتون ثم يستكمل نوبة عمله انتظارا لانتهاء ساعاته، ليحصل على 10 جنيهات فى نهاية اليوم، ليعود مسرعا إلى والده الذى يعيله وإخوته الصغار.

أسامة ابن العاشرة فقد بفقدان أمه الأمن والأمان، لكنه يسعى كل يوم لتعويض أخوته ما كانت تأتى به الأم لهم بعد ساعات عمل طويلة أرهقتها وقضت على حياتها، لكنه بحماس الرجل رفض التعويل على إحسان الآخرين ونظرات الشفقة فى عيونهم، وآثر النزول إلى ميدان العمل، ليعمل، وليعطى الجميع درسا بالغا فى كيف يكون طفلا ورجلا فى آن، وعندما يتحدث للصحفيين لا يحتاجون منه كلاما كثيرا ليعبر عن أحزانه وحياته التى أصبحت مظلمة بغياب حضن الأم وحنانها ولمسة أيديها التى لامست منذ أن كان طفلا صغيرا، فكانت جملة “أمى ماتت ومات معها كل شىء” هى أبلغ ما كتب طفل فى مثل عمره عن أمه، وعندما ينظر اليه الآخرون يكفون هم عن السؤال، فعينيه تقرأ حاله وتصور كم أصبحت حياته أكثر حزنا وقسوة وإنسانية من تلك العبارة التى كتبها فى الامتحان.. ومع عذاباته الإنسانية، لم يكترث أسامة ابن العاشرة برصاص الإرهابيين، ولم يغب يوما عن عمله فى مزارع الزيتون، فأخواته ووالده العاجز فى أمس الحاجة لكل قرش يتكسبه من عمله فى ظل درجة حرارة تذيب الحديد ورطوبة تخنق الصدور، لكنه ورغم حداثة سنه، يعترف بأنها إرادة الله، حقا ما أحلاك طفلا. ليس من حقى أن أوجه اللوم للسلطات فى مدينة أسامة، فهى بالتأكيد نشطت لمساعدته وإن غاب هذا عن الإعلام، وربما كان الطفل نفسه هو الذى رفض قبول مساعدات أو نظرات شفقة أو إحسان من أحد، لأن الأكيد أنه تعلم من أمه عزة وكبرياء النفس، وهذه هى علامات العفة، وتحسبهم أغنياء من عفتهم.

وإن كنت أعلم يقينا بأن الطفل أسامة ليس يتيما فوالده لا يزال على قيد الحياة، وإنما يعيش كاليتيم، ومع غياب أمه زاد حزنه على حزن، ندعو الله أن يوفقه ويرزقه من غير حساب.. ومن هنا انتقل إلى قصة أخرى، قصة يتحدث عنها إسلامنا السمح، قصة تقول لنا وللغرب وأمريكا إن الإسلام ليس هو ما يشاهدونه من عمليات قتل وتدمير على يد “داعش” وغيره من التنظيمات الإرهابية التى تتمسح بديننا البرىء منهم، ونعود للوراء إلى مئات السنين لنروى للجميع، لأنفسنا قبل غيرنا، قصة حدثت فى بلاد المسلمين الحقيقية، تلك البلاد عندما حكمت بشرع الله عز وجل فى عليائه، قصة من القصص الكثيرة فى عهد خامس الخلفاء الراشدين الخليفة عمر بن عبدالعزيز، الذى الذى لم يحكم سوى بضع وثلاثين شهرا كانت أفضل من ثلاثين دهرا، ونشر خلال سنى ولايته العدل والإيمان والتقوى والطمأنينة، وعاش الناس فى عز لم يروه من قبل. فالخليفة عمر بن عبدالعزيز فوجئ بشكاوى من كل الأمصار المفتوحة (مصر والشام وإفريقيا) تتركز فى عدم وجود أماكن لتخزين الخير والزكاة من كثرة خيرات الله المتوافرة بها، ويسألون: ماذا نفعل؟ فيقول عمر بن عبدالعزيز: أرسلوا مناديا ينادى فى ديار الإسلام: أيها الناس: من كان عاملا للدولة وليس له بيت يسكنه فلْيُبْنَ له بيت على حساب بيت مال المسلمين.. يا أيها الناس: من كان عاملا للدولة وليس له مركَب يركبه، فلْيُشْتَرَ له مركب على حساب بيت مال المسلمين.. يا أيها الناس: من كان عليه دين لا يستطيع قضاءه، فقضاؤه على حساب بيت مال المسلمين.. يا أيها الناس: من كان فى سن الزواج ولم يتزوج، فزواجه على حساب بيت مال المسلمين.

فماذا كانت النتيجة لكل دعوات أمير المؤمنين، النتيجة أن تزوج الشباب الأعزب، وانقضى الدين عن المدينين، وبنى بيت لمن لا بيت له، وصرف مركب لمن لا مركب له.. ومن هنا اتساءل بدورى: هل رأينا فى أى حضارة ما رأيناه فى عهد الخليفة عمر بن عبدالعزيز؟

انتظروا لم تنته القصة بعد، لماذا؟ لأن الشكوى استمرت من عدم وجود أماكن لتخزين الأموال والخيرات التى فاضت عن الحد وتضاعفت، فيرسل عمر بن عبدالعزيز رضى الله عنه إلى ولاته: “عُودوا ببعض خيرنا على فقراء اليهود والنصارى حتى يسْتَكْفُوا”، فأُعْطُوا، واستمرت الشكوى، فقال: وماذا أفعل، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، خذوا بعض الحبوب وانثروها على رؤوس الجبال فتأكل منه الطير وتشبع.. حتى لا يقول قائل جاعت الطيور فى بلاد المسلمين.

ونحن نتحدث عن بلاد المسلمين زمان، نتذكر بعض الجمعيات الخيرية التى ترفع شعار كفالة اليتيم ثم تستغل أموال المحسنين والصدقات فى التربح وزيادة حصصهم فى البنوك، غير مبالين بدين ولا برب يرى الجميع ويطلع على ما تخفى القلوب، فلا يتيم أخذ حقه ولا عابر سبيل اقتاد خبزا من أموال المتصدقين والمحسنين، فثمة حكايات يشيب لها الولدان، ونخشى أن نتذكرها ونحن نعيش أيام وليالى هذا الشهر الكريم، شهر البركة والرحمة والمغفرة، وإن كنا نتذكر فقط أن المولى عز وجل أكرم اليتيم وحث على حسن معاملته وعدم ظلمه، والمولى عز وجل أراد أن يكون رسولنا الكريم يتيما، حتى يضرب به أحسن الأمثلة وأفضلها فى تربية اليتيم والإحسان اليه وعدم ظلمه. كما أراد المولى عز وجل أن يضع البلسم على جِراح الأيتام فى المجتمع المسلم، فجعل رسولنا الكريم أن ينشأ يتيما، فأكرمه وحاز الكَمال فى التربية برِعاية ربنا له، والذى خاطبه فى معرض المن والتذكير بالنِّعمة فى قوله تعالى: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى).

ويقول الدعاة أن أقسى أنواع الظلم هو ظلم اليتيم معنويا وماديا، وعن أبى هريرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال: (اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا : يا رسول الله، وما هن؟ قال : الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التى حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولى يوم الزحف، وقذف الغافلات المؤمنات). رواه البخارى. فظلم اليتيم اجتماعيا واغتصاب ماله من أقرب الناس أو غيرهم وجعله فقير النفس والمكانة والمال، من الكبائر، لأن هذا يدفع اليتيم إلى طرق أبواب الغرباء باحثا عن مسكن ومأكل وقلب رحيم، يعيش بقلب كسير وذليل، وعينين دامعتين، ونفس وجله من المستقبل، وكم يتمنى أن يسترد حقوقه ومكانته بين الناس، ويعيش بشكل سوى دون أن يحس بالنقص عن غيره من الناس. وقد حذَّر القرآن الكريم من أخذ مال اليتيم بغير حق ونهى عن أكل مال اليتيم ظلما، قال تعالى: (وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِى هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الأنعام:152].

لقد ذكر الله اليتيم فى آيات كثيرة لعلنا ندرك معانيها ومضامنيها لكى نعمل بها، فقال تعالى:(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) [النساء: 10]، أى إذا أكلوا مال اليتامى بلا سبب، فإنما يأكلون فى بطونهم ناراً تتأجج فى بطونهم يوم القيامة، وقد هزت هذه الآية قلوب الصحابة هزا عنيفا وملأتها بالخوف والرهبة ووقعوا فى حرج شديد. قال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية، انطلق كل من كان عنده يتيم فعزل طعامه عن طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضل الشىء أى يتبقى من أكل اليتيم فيحبس له، ولا يأكله أحد حتى يأكله اليتيم، أو يفسد.

كما ذكر فى محكم كتابه العزيز: (أَرَأَيْتَ الَّذِى يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِى يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ).. (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ).. (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا) [النساء: 8] والغنائم (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَىْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى) [الأنفال: 41].

إن فضل كفالة اليتيم والإحسان اليه ورعايته والاعتناء به، من أعظم القربات إلى الله تعالى. فإنه لا يصح شرعا أن يحرم هؤلاء مرتين؛ مرة من حنان الأمومة، وعطف الأبوة، وأخرى من رحمة المجتمع ورعايته، ويقول المولى فى كتابه العزيز : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَام فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ) [البلد: 11-15].. فالإحسان إلى اليتيم مصدر غنى للحسنات كما يقول رسولنا الكريم: (مَنْ مَسَحَ رَأْسَ يَتِيمٍ لَمْ يَمْسَحْهُ إلا لِلَّه، كَانَ لَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ مَرَّتْ عَلَيْهَا يَدُهُ حَسَنَات).

عفا الله عنا وعنكم وجعلنا من المتقين ورمضان كريم.