
خالد القاضي
الوعى بالقانون لمواجهة الإرهاب فى الوطن العربى
من أرض الكنانة انطلقت بالأمس السبت أعمال مؤتمر القمة العربية فى دورته السادسة والعشرين، وفيها تتسلم مصر رئاسة القمة لعام مقبل، وسط تحديات عربية وإقليمية ودولية جسيمة تفرضها أحداث الإرهاب الأسود الذى يستشرى فى أوصال الدول العربية دون هوادة.
وفى إطار التواصل العلمى الجاد مع تلك القمة الفارقة فى تاريخ العلاقات العربية- العربية، وانطلاقا من تجذر المسئولية الوطنية المصرية والقومية العربية فى وجداننا نحن المصريين والعرب، أجد أن ثمة واجبا وطنيا وأخلاقيا يحتم علينا ألا نقف مكتوفى الأيدى، بل نساهم -ما وسعنا الجهد - فى مواجهة ذلك الإرهاب، ومن ثم نقترح إطلاق مبادرة مصرية –عربية للوعى بالقانون لمواجهة الإرهاب للشعوب العربية، يتم تدشينها من القاهرة فى مؤتمر عالمى يشارك فيه المسئولون والخبراء والمعنيون والمتخصصون، ثم تتواصل فعاليات المبادرة لتشمل جميع العواصم والمدن العربية التواقة للوعى بالقانون لمواجهة الإرهاب، لترسيخ قيم العدالة والحق والسلام الاجتماعى بين شعوبها، تتلاحم فيها ومن خلالها جميع الأطراف الفاعلة لوأد منابع الإرهاب فى مهدها، وإعلاء قيم المواطنة والإنسانية بوعى وحكمة وإرادة.
ونناقش فى هذا المقال أهم مفاهيم ومضامين الوعى بالقانون، ثم نردفها بطرح آليات تنفيذ مبادرة الوعى بالقانون لمواجهة الإرهاب:
مفاهيم ومضامين الوعى بالقانون:
تعبر كلمة الوعى عن حالة عقلية يكون فيها العقل بحالة إدراك وعلى تواصل مباشر مع محيطه الخارجى عن طريق منافذ الوعى التى تتمثل عادة بحواس الإنسان الخمس، ويعنى وعى الذات وعى الإنسان لذاته ولمكانته فى نشاط الناس الاجتماعى المشترك، وبفضل هذا الوعى يكتسب الإنسان القدرة على مراقبة الذات، وإمكانية التوجيه الهادف لتصرفاته وضبطها وتربية الذات، وعليه يكون على الذات مسئولية أخلاقية، وتتحقق قناعات الذات من قدرة المرء على الضبط الذاتى لأفعاله، أى فى النهاية يرتبط الوعى بالعلم والمعرفة والفهم والتطبيق ومراقبة الذات وضبط سلوكها وتوجيهه توجيهًا هادفًا.
وبناءً عليه تنطلق فكرة الوعى بالقانون من هذه المنطلقات المرتبطة بهذه المفاهيم، فحقيقة الوعى بالقانون ليست فقط معرفة التشريعات والنصوص القانونية، بل هو صورة متمازجة وشاملة لكل أنواع الوعى الاجتماعى، ورفع المستوى الثقافى والمعرفى للمواطن ليكون قادرًا على استيعاب القانون وتقبل أوامره ونواهيه بشكل صحيح، بل ويتبنى القانون ويجعله قيمة عليا يدرك أبعادها ويسعى لتطبيق موجباتها. ويرتبط وجود القانون بوجود الإنسان فى مجتمعٍ، ومن ثم فلا غنى له عنه، فهو ضرورة ملحة للإنسان على المستويات جميع، ويعد القانون علامة على الوجود البشرى واستمراره، وحاضره ومستقبله، بل إن تقدم الأمم وقيام الحضارات يدور وجودًا وعدمًا وقوة وضعفًا وإيجابًا وسلبًا مع رسوخ اقتناعها باحترام القانون وقدسيته ووعى الشعوب به، ولهذا تتعدد مضامين الوعى بالقانون على النحو التالى:
يخلق الوعى بالقانون منظومة متكاملة فى التعايش بين أفراد المجتمع والعالم أجمع، حيث يعرف الإنسان حقوقه وواجباته، فلا يضر بالآخرين، ويقاوم الجهل والاستعباد وألوان القهر، ويعترف بالآخر ويتحاور معه، وينبذ العنف، ويقبل التسامح، ويعلى من أهمية المواطنة المتساوية.
يعد الوعى بالقانون أساسًا من أسس الحكم الديمقراطى الرشيد، ويرسى مبدأ الديمقراطية فى الوجدان الشعبى، ويساعد على تحقيق الاستنارة وتقدم المجتمعات وصياغة مستقبلها السياسى المستند على قيم الحرية والعدل والمساواة والكرامة.
يعزز الوعى بالقانون الإيمان بقيمة الفرد وأهميته وتفوقه وموهبته بعيدًا عن المحسوبيات والمجاملات ما يخلق جوًا صحيًا للتنافس والتميز والتنمية البشرية، ويضع أفرد فى مكانه المناسب مما يعمق الوعى بإنسانية الإنسان ومكانته.
تعد سيادة القانون إحدى دعائم حماية هيبة الدولة، فبتلك السيادة يعتصم أصحاب الحقوق، وإليها يحتكم أرباب المطالب، وبدونها تسود لغة الفوضى والبلطجة والفساد، وينهار أمن الناس وحياتهم، وتتلاشى هيبة الدولة، وتدهور منظومة القيم على جميع الأصعدة.
يعمق الوعى بالقانون علم الفرد بحقوقه وواجباته القانونية فى مجتمعه مما يضمن له الحفاظ عليها والعمل على تحقيقها، ويقاوم ألوان الظلم والطغيان والفساد والجريمة، ما يحقق له الإحساس بالمساواة والإنسانية كما أرادها له الخالق العظيم.
توفر سيادة القانون بيئة اجتماعية واقتصادية وثقافية تؤمن للمواطن حاجاته المادية والمعنوية، وتحفظ للدولة وحدتها، وتعزز قيم الحرية والديمقراطية، وتدفع المواطن لأداء واجباته، والتمتع بحقوقه الإنسانية، وتمنعه من تجاوز القانو..
يرسخ الوعى بالقانون النظام فى المجتمع، ويعزز المشاركة المجتمعية، ويجسد حسن الإدارة والنزاهة والشفافية، ويقاوم السلوكيات المنحرفة، مما يساعد فى جلب الاستثمارات ورؤوس الأموال والسياحة ودفع عجلة الإنتاج مما يساعد على تحسين أحوال الناس فى جميع المجالات، ما يعنى بناء مجتمع متقدم ينعم أفراده بالرفاهية والسعادة فى ظل حكم رشيد.
آليات مبادرة الوعى بالقانون لمواجهة الإرهاب:
على جميع الأطراف الفاعلة فى المجتمع العربى العمل على تبنى آلياتٍ عملية محددةٍ قابلة للتطبيق للوعى بالقانون لمواجهة الإرهاب، وفتح قنوات اتصال دائمة على المستوى القُطرى والعربى والإقليمى والدولى لتفعيل تلك الآليات مع تطويرها وتحديثها باستمرار، واستمرار حالة الحوار العام والشامل حولها بين جميع فئات وأعمار الشعوب العربية؛ قد يكون من بينها نشر الثقافة القانونية من خلال إدخالها ضمن المقررات الدراسية فى مراحل التعليم المختلفة فى المدارس والجامعات والأكاديميات، ودعوة مراكز البحوث ووسائل الإعلام ومؤسسات المجتمع المدنى ودور العبادة للمساهمة بدورٍ حيوى فى نشر ثقافة الوعى بالقانون وتنميتها وتعبئة المواطنين وتهيئتهم النفسية لتقبل الواجبات العامة التى يفرضها القانون على الجميع، ومطالبة الشعوب العربية بالتمسك بثوابت القانون، لتصبح ثقافة احترام القانون سلوكاً راسخًا، وممارسة حياتية فى الضمير الجمعى العربى.
وقد تتجسد تلك الأفكار من خلال المحاور التالية:
التأكيد أن مؤسسات التعليم تنهض بالدور الحيوى الأهم فى المجتمع، وذلك لارتباط فترة التعليم بمرحلة التكوين ونمو الشخصية ونضجها ووعيها. وأهمية هذا الدور الفعال فى مراحل العمر الأولى لغرس قيم الالتزام بالقانون وأن كل حق للإنسان يقابله واجب عليه باحترام القانون، والمطالبة بآليات عملية لتكريس قيم المواطنة والتسامح وقبول الآخر منذ نشأة الطفل وخلال مراحل تعليمه المتتابعة. ودعوة رجال القانون إلى زيارة المدارس والفصول الدراسية لإحداث نوع من التواصل بينهم وبين التلاميذ مما يكون له عظيم الأثر فى إزالة الرهبة من نفوس التلاميذ ويزيد من قدرتهم على استيعاب أدوار رجال القانون لحماية العدالة، وأن تدخل الثقافة القانونية فى المناهج الدراسية فى شكل مشروع متكامل تكون مخرجاته الأساسية خريجا واعيا مثقفا من الوجهة القانونية مع التأكيد على كون (دراسة الانتماء وحب الوطن ودراسة الواجبات والحقوق) كيانا متكاملا ومهما فى تشكيل الثقافة القانونية للطلاب.
المطالبة بتكريس فكرة الالتزام بالواجبات القانونية كنظيرتها من الواجبات الدينية، والاهتمام بالدعاة وتدريبهم وتثقيفهم للوصول إلى الفهم الصحيح للأديان التى تحفظ مبدأ التعايش السلمى بين أبناء الوطن الواحد والحرص على احترام حقوق الإنسان بدون تمييز بسبب الدين أو الجنس أو اللغة أو العرق، وتنمية ثقافة الوعى بالقانون واحترام القيم وتقديس الواجب وإنجـاز العمل المنوط بالإنسان استنادًا على قاعدة أن الدين المعاملة وعدم تعويق مصادر الإنتاج والاقتصاد التى تساهم فى تنمية المجتمع لتلبية احتياجاته المتجددة والمتنوعة.
التأكيد أن وسائل الإعلام تعد أعين الجماهير ولسانها، وموجه عقلها الجمعى ومحدد ثقافتها العامة لانتشار تلك الوسائل ووصولها المكثف للجمهور المستهدف، وسهولة التواصل معها فضلا عن خطابها العام الذى يصل إلى عدد كبير متباين من المواطنين، وذلك بهدف خلق حالة حوار عام حول جميع القضايا القانونية المثارة ومناقشتها مناقشة موضوعية هادفة فضلا عن الاهتمام بعرض ما يستجد من مواد قانونية حتى لا تظل المعرفة القانونية أسيرة بين المتخصصين فقط وكذلك الاستعانة بأهل القانون عند عرض الموضوعات القانونية، والاهتمام بشرح فلسفة القوانين ومغزاها والمستهدف منها، وأنها لم تسن إلا لتطوير حركة الحياة والاستجابة لجميع المتغيرات المجتمعية فى إطار مبدأ الأمان التشريعى.
تأكيد حتمية تكريس دور الدراما والفنون على خلق حالة تنوير عامة فى المجتمع والسمو بالوجدان وإيقاظ الأذهان والرقى بالإنسان وشحذ الهمم وتنمية الإرادة، ودعم أفكار الالتزام بالواجب والحق والعدل واحترام حقوق الإنسان بعيداً عن التعصب والتحزب والإقصاء، والاستعانة بأهل القانون عند عرض بعض القضايا القانونية فى الأعمال الفنية حتى تتضح المفاهيم القانونية الصحيحة، وسعى أهل الفن إلى الجماهير فى كل مكان لخلق حالة التنوير لدى الجماهير العريضة بعيداً عن النخب من جهةٍ أو القادرين مادياً من جهة أخرى.
الدعوة إلى مناهضة وتجاوز ثقافة العنف والتعصب إلى ثقافة التسامح وقبول الآخر فى إطار مفهوم الوطن والمواطنة التى تشكل وعيًا جمعيًا يعبر عن الهوية المشتركة بين أبناء الوطن الواحد، والوعى بمفهوم الوطن الذى يعد من أهم مفردات الثقافة القانونية والسياسية الحديثة التى يكتسبها الإنسان فى إطار عمليات التنشئة الاجتماعية والسياسية. والتأكيد أن المنظمات المدنية العربية تعد شريكاً أساسياً فى منظومة الحكم فى المجتمعات المعاصرة بالإضافة إلى المؤسسات الحكومية والدستورية، وتقف تلك المنظمات فى مقدمة المؤسسات المنوط بها قيادة المجتمع نحو إعلاء سيادة القانون وإعادة صياغة حركة الحياة وفق مقتضيات الحق والجمال والواجب والعدل والكرامة وذلك من خلال الاهتمام بتنمية المجتمع ومساعدة الجماهير، والسعى إلى الفئات المهمشة فى المجتمع.
تدعيم خطط وبرامج عمل المنظمات الدولية والإقليمية الهادفة إلى رفع مستوى الوعى العام للشعوب العربية، واستثمار الفرص المواتية فى المؤتمرات والندوات التى تعقدها المنظمات الدولية والإقليمية فى البلاد العربية لنشر ثقافة الوعى بالقانون أياً ما كانت موضوعاتها لأن القانون مكون أساسى فى جميع الموضوعات الإنسانية. وعلى أهمية إنشاء بنك معلومات قانونى يتبع جامعة الدول العربية تكون مهمته نشر ثقافة الوعى بالقانون لجميع المنظمات والمؤسسات التابعة لها والمتفرعة عنها فى المنطقة العربية، وكذلك لإتاحة تواصل الجاليات العربية المقيمة فى الدول الأجنبية مع الجامعة العربية. واستحداث آليات عملية فى المنظمات الدولية والإقليمية لتيسير حصول المواطن العربى على القدر الكافى من مفردات القانون التى تعينه على معاملاته الحياتية، وأخيرًا تعزيز التواصل بين المنظمات الدولية والإقليمية مع منظمات المجتمع المدنى الوطنية فى البلاد العربية لتحقيق الأهداف المشتركة لتنمية ثقافة الوعى بالقانون للشعوب العربية.
وفى النهاية نتوجه بمبادرتنا لجميع الحكومات والبرلمانات والأجهزة القضائية فى الدول العربية أن تتكامل جهودها، لتفعيل تلك المبادرة وفقا للآليات التى تراها كل دولة مناسبة لها.
وقد أرسلنا هذا الاقتراح إلى فخامة السيد الرئيس عبدالفتاح السيسى رئيس جمهورية مصر العربية، ومعالى السيد السفير سامح شكرى وزير الخارجية، ومعالى الدكتور نبيل العربى الأمين العام لجامعة الدول العربية، وإلى أصحاب المعالى والسعادة سفراء الدول العربية بالجامعة العربية.
ونأمل أن تنجح تلك الجهود فى دحر الإرهاب ووأد منابعه، وأن تستعيد الدول العربية أمن وأمان وسعادة شعوبها، خلال هذا العام الذى تترأس فيه مصر القمة العربية ؛ فمصر- كانت وما زالت وستظل بإذن الله تعالى- أيقونة السلام، وقبلة الأمة العربية وظلها الوارف وعدتها لليوم والغد، وها هى مصر تتحدث عن نفسها صادحة بكلمات الشاعر حافظ إبراهيم : أنا تاج العلاء فى مفرق الشرق.. ودراتـه فرائـد عقــدى، ما رمــانى رامٍ وراح سليماً.. من قــديم عناية الله جندى..
حفظ الله مصر.. للمصريين، وللعرب، وللعالمين، فى كل زمان وحين.